لاجئ سياسي

في بلد لا يحكم فيه القانون يمضي فيه الناس الي السجن بمحض الصدفة ..

صلاح عبد الصبور  ……

يكاد يسمع صوت عظامه المتألمة من الصقيع .

كلما فتح النافذة لا يرى سوى كفن قد لف الأرض فتفيض روحه ليعود إلى دفئ فروة الدب ويرتشف قهوته الشقراء  يحدق  بعلبة الدخان البيضاء ذات الغلاف الذهبي،  ليتها كانت  “الحمراء ” !

 وليت هذا البياض انقلب تراب اسمر وغبار يزكم الأنوف مثل  ذلك الذي لم يكن له أي وظيفة  سوى   رسم الخرائط  على وجوهنا حين تدمع العيون وتطالها الأيدي المتيبسة  ،كانت تتغلل بين فروة الرؤوس لتحوله إلى ما يشبه وبر الماعز.

رفع كأس الشراب الحليبي اللون وتذكر مياه تلك البركة الضحلة حين كان يغطس فيها السطل وبيده يغرف الطبقة الخضراء من السطح لتندلق على الأرض الزلقة  ،يعود بالسطل لتُترك فترة حتى تستقر الكائنات في القاع وليُشرب ما صفي من الماء.

فتح خزانة ملابسه  ،حاول أن يعد الأطقم اللامعة لكنه عجز ، سمع قهقهة من صدره ، الرحمة لتلك الكنزة الصوفية المرقعة ذات المربعات الصفراء والبنية والتي كانت تتدلى منها الخيوط هاربة من سجنها ، كم كانت وفية  لم تكن تفارقه في كل فصول السنة.

آه يا جدتي هل أدعو عليك ،أم أدعو لك؟

تلك الأمسية حين ناولتني  تلك (الروشيته) التي كانت قد اصفرت وتجعدت كبشرتها الحنون.

ولدي محمود  : خذ هذه الف ليرة آتني بدوائي واحتفظ لنفسك بالباقي .

وطار محمود  بجناحين من الفرح على ظهر دراجته الحمراء متوجها إلى قامشلو .

كان الجو باردا في ذلك الصباح محملا بالرطوبة التي جعلت تلك المساحات الخضراء تلمع وهي تستقبل اشعة الشمس  .

حين وصل  محمود إلى “حلكو”  ادخل دراجته إلى حوش بيت خالته  واتجه للسوق  راجلا.

وصل جامع زين العبدين  ،راعه مشهد بعض الشبان وهم يركضون مرعوبين  ارتطم أحدهم به فيما هو منذهل، فسقط أرضا ثم امطرت السماء عليه  بالأحذية تدعس وجه ، ثم  اعقاب المسدسات تحطمه ولم يشعر بنفسه إلا وهو في قبو مظلم  مخنوق ،عفن ،كان قد تحول إلى خرقة بالية.

لا يدري كم عدد الأيام التي قضاها مع تلك  المجموعة التي كان أكبرهم لم يبلغ العشرين.

 مانوا ممزقي الثياب مزرقي الوجوه والكدمات قد خسفت واجهتهم  .

الكل كان ينكر التهمة  وحده كان يصرخ نعم اعترف  ، اعترف  ولا أدري ما هي التهمة  .

علم لاحقا أن التهمة هي كتابة شعارات ضد الرئيس حافظ الأسد على جدران مدرسة عربستان، قضى هنالك شهور كانت أثقل من شوال الحنطة التي كان يسابق زملائه في حملها أيام الموسم . قفز عمره متجاوزا الثلاثين  خلال شهور .

  تكفل أحد المتنفذين بإخراج خمسة من المجموعة من الذين تعرضوا للتعذيب أكثر  إلى تركيا  ومنها إلى السويد.

ليته عصا جدته ككل مرة  ولم يطمع بباقي الأف ليرة في ذلك الصباح.

اليوم هو محلل سياسي بسبب نوعية لجوئه.  أكثر من عشرين سنة وهو يسرد تاريخه النضالي على الشاشات  وأن النظام ما يزال يهدده  لأنه  كان مناضلا لا يشق له غبار…