قراءة: مشهد عابر في وطني …

مشهد عابر في وطني …

قصة قصيرة

كان عزيف صَرصَر الخريف يؤرق الجمهرة من الحيوات في ردهة الأنتظار في المشفى العام لمدينة قامشلو ، لم يبق لي سوى توقيع المدير العام لأتمكن من نقل عمي وأخذه إلى المنزل بعد رحلة علاج طويلة وصعبة ، وأنا أدقق في الصور على جدران الردهة الطويلة كهذه الحرب القذرة التي نعيشها ، لمحت كهلاً قد قارب السبعين ، كانت ملامحه تفصح عن مدى تقدمه في السن .

ظهرٌ أعوج و وجهٌ نُقشت عليه خارطة الحزن بعناية ، يدان ترتجفان لا من خوف مُقدر ، بل من حزنٍ دفين لعلي استقصيه وأعرفه وخاصة أنني اقرأ عينيه ببصر التأويل لدي ، كان الكهل جالساً على كرسي أمام احدى الغرف ، تمعنت النظر في وجهه الكئيب ولحية بيضاء غير منظمة ، ولكن هذه الملامح لا تبدو غريبة لدي ، يا إلهي …!!!!

أنه العم فرهاد ، لي سنوات سبع لم ألتقي به ولكن لماذا يحمل جبالاً من الأحزان والآلام ، وأنا أعرفه الرجل البشوش الذي يحب المزاح ، لم أستطع أن أردع نفسي من السؤال ، ولكن كيف بي أن استفسر منه وهو بهذا الوضع ، أقتربت من الغرفة التي يجلس أمامها .

كان علم كُردستان ذات الشمس الساطعة تزين خلفية الصورة الملتقطة بعناية وثمة عصابة سوداء على الزاوية الشمالية الغربية منها .

تظاهرت بأنني أتفحص الاوراق التي في يدي ، حتى وصلت إلى باب الغرفة ، استرقت بعض النظرات ، تفحصت الغرفة بعينين متسائلتين عن مصيبة هذا الرجل الذي كان يضرب به المثل في الوطنية في الحي الذي تربيت فيه ، و ياللمصيبة ويا ليتني منعت نفسي من التساؤل ….!!!

فتاة في ربيعها العشرين ، قضمت الحياة منها كل بهجتها ، كان رأسها الخالي من الشعر يخبرني عن مرضها الذي أكره ذكره مباشرة ، رغم ذلك بقيت بيضاء نقية كثلوج زاغروس ، ناعمة كنسمات الربيع الآذارية ، كانت العينين كما عهدتهما في طرفهما حَورٌ ، نعم عرفتها من شامتها على خدها الأيمن ، أنها شيرين تلك الطفلة المدللة في الحي أبنة العم فرهاد ، كانت في الصف السابع عندما غادرت الحي ، كم سيتحمل قلبك أيها العم فرهاد أتذكر قصة أستشهاد اولاده وذلك قبل مغادرتي للحي بأيام كيف طوى العم فرهاد المنديل المخضب بدم ولده شيرو وأغلق عليه بأصابعه المتشققة من أثر الأسمنت وبدأ يشم المنديل ويقبله .

و كانت أصوات النسوة الثكلى في الغرفة المجاورة تعلو في وتيرة متباينة تندبن الشهيد، وقتها لم يعكر جو العم فرهاد سوى دخول شفان أبن اخيه عليه في الغرفة والذي قال : الصورة جاهزة يا عمي ، ألتقط العم فرهاد الأطار الخشبي المزخرف وبداخله صورة ولده بلباسه العسكري وعلم كوردستان يزين صدره مع عبارة ( Pêşmergeyê Rojava)

كان علم كُردستان ذات الشمس الساطعة تزين خلفية الصورة الملتقطة بعناية وثمة عصابة سوداء على الزاوية الشمالية الغربية منها .

رفع العم فرهاد الصورة بعد أن طبع عدة قبلات عليها ، وثبتها في جدار الغرفة بجانب صورة اخرى ، صورة شورش أبنته الكبرى شقيقة شيرو صورتها إيضاً ضمن أطار خشبي وعصابة سوداء في الزاوية الشمالية الغربية من الصورة أيضاً ، لباسها العسكري يختلف قليلاً عن لباس أخيها ونجمة حمراء ضمن مثلث أصفر يزين كتفها الايسر مع مثلث اخضر على الكتف الأيمن ، قال العم فرهاد لجمهرة الجيران من حوله :

ها قد رحلا رغم أنني لم أوجههما إلى أي طريق زرعت فيهما حب كُردستان ولم أغصبهما على شيء لقد ضحيت بفلذتي كبدي من أجل كُردستان ، من أجل حقوق شعبنا المظلوم وأتنمى أن لا تضيع دماؤهما هدراً ، أتذكر كلامه جيداً ولكن ماذا سيحدث له وها هي أبنته شيرين تودع الحياة بعين حزينة ، هنا حيث لا أحد بجانبه في محنته الجديدة ، سوى صرير الاسرة ورائحة المعقمات وضحكات الممرضات وثرثراتهن ، وزبيط الأوز القادم من الفناء الخلفي للمشفى .

رائد محمد .. في مساء خريفي في هولير

صفحتنا على فيس بوك

أقرأ أيضاً

مقالات أخرى